هذا رجل كانت تقوده أقداره إلي الحافة دائما، إنه صلاح نصر واحد من أشهر من تولوا مسئولية جهاز المخابرات المصرية، ليس لأن اسمه ارتبط بقضية فساد المخابرات، ولكن لأن من يعرفون للرجال أقدارهم يقدرون له أنه كان واحدا من الذين قام هذا الجهاز الوطني علي أكتافهم في بداياته الأولي، وأن العمليات الكبري التي كسرنا بها أنف إسرائيل كلها تقريبا تمت في الفترة التي كان صلاح نصر علي رأس الجهاز.
لم تكن أسرة صلاح نصر المتوسطة التي كانت تعيش في قرية سنتماي مركز ميت غمر دقهلية تريد لابنها أن يصبح ضابطا، فكرت أن يدخل كلية الطب، لكنه صمم علي أن يكون ضابطا، وبالفعل دخل الكلية الحربية في دفعة 1936، وهناك زامل عبد الحكيم عامر الذي ظل إلي جواره حتي اللحظة الأخيرة، وعندما مات عامر دخل صلاح في دوامة حياتية لم يخرج منها إلا بعد أن مات في 5 مارس 1982 عن اثنين وستين عاما فقط، فقد ولد في 8 أكتوبر 1920. وفي 23 أكتوبر 1956 عين نائبا لمدير المخابرات وكان مديرها وقتها علي صبري، وكان زكريا محيي الدين مشرفا ومحركا لها وذلك لانشغاله بإدارة أمور مكتب الرئيس عبدالناصر، وبعد أقل من عام أصبح صلاح نصر مديرا للمخابرات العامة المصرية تحديدا في 13 مايو 1957. لم يكن صلاح نصر مديرا عاديا للمخابرات، لكنه كان مبدعا وخلاقا ومفكرا في عمله، ويظل كتابه المهم عن الحرب النفسية من أهم المراجع لمن يعمل في مجال المخابرات، وقد وقع للمرة الأولي في حياته مريضا في مكتبه في 13 يوليو 1967 مصابا بجلطة دموية شديدة في الشريان التاجي، دخل السجن في قضية انحراف المخابرات، وظل به حتي أخرجه الرئيس السادات منه في العام 1974. لو فعل صلاح نصر ما فعله في بناء جهاز مهم مثل جهاز المخابرات في دولة أخري لتم الاحتفاء به وتكريمه مهما فعل من أخطاء، لكن قدره قاده إلي أن يكون كبش فداء لهزيمة عبدالناصر، كان لابد من تشويهه، ولا أشد ولا أقوي من التشويه في مجتمع يعاني من الكبت والإزدواجية الأخلاقية بالفضائح الجنسية. إن هناك كثيرين لا يعرفون شيئا عن صلاح نصر، لم يقرأوا حياته، ولم يتعرفوا عنه عن قرب، لكن في اللحظة التي يستدعي فيها اسمه، تجد الجميع يلصقون به كل الموبقات، ويعتبرونه عربيدا، كان يجبر النساء علي معاشرته لمجرد أنه رئيس المخابرات المصرية. كانت الرصاصة الأهم في معركة تشويه صلاح نصر من نصيب هيكل، في كتابه الانفجار الذي سجل فيه بالوثائق ما جري في نكسة 67، قال بالحرف صفحة 402:كان جهاز المخابرات العامة منذ إنشائه وحتي منتصف الستينيات - أكفأ أجهزة المخابرات في المنطقة، وكان جهد السيد صلاح نصر في إنشائه وإدارته لا ينكر، ولكن طول البقاء في المنصب، مع ظروف السرية المطلوبة للجهاز والتي تؤدي إلي ظاهرة الانحراف التي تعرفها كل الأجهزة المماثلة قادته إلي مواضع الزلل. يصف هيكل ما جري:كان السيد صلاح نصر شخصية تتنازعها تناقضات داخلية، وأتذكر أنني رأيته في الهند 1966، وكان ضمن الوفد المصري الذي سافر لاجتماع قمة الدول غير المنحازة في دلهي، وكانت مهمته الحقيقية هي التنسيق بين المخابرات الهندية والمصرية، وحدث أثناء هذه الزيارة أن صحبه مدير المخابرات الهندي لزيارة مجموعة "معابد كاجور او" في ولاية "ماديا برديش"وهي معابد مغلقة أمام الزوار العاديين بسبب ما تحتويه من تماثيل الجنس الفاضح. كان الجنس في هذه المعابد كما يقول هيكل ضمن الطقوس الدينية التي تمهد للرهبنة بما يؤدي إلي الملل منه برغبة التطهر، ويكمل هيكل: ولكني سمعت السيد صلاح نصر يتحدث عن زيارته لهذه المعابد بالتركيز علي ما رآه فيها، وليس بالفلسفة الكامنة وراءها بصرف النظر عن صحتها، ثم وجدت بعد ذلك أثناء قراءاتي لمحاضر التحقيق معه ومع غيره في قضية انحراف المخابرات عبارة أن الجنس وسيلة للسمو والتطهر منسوبة إلي صلاح نصر، وأدركت أن ما رآه في معابد الهند كان أكبر مما يستطيع أن يفهمه وأن يحتمله. قال هيكل ولم يقل، أشار ولم يشر إلي الانحراف الجنسي الذي دخل المخابرات علي يد صلاح نصر، لكن لماذا لا يلتفت أحد إلي ما يقوله المجني عليه، وأنا أقلب في أرشيف صلاح نصر، وجدت حواره الطويل الذي أدلي به للكاتب الراحل عبدالله إمام، وهو الحوار الذي أصدره إمام في كتاب عنوانه"صلاح نصر.. الثورة.. المخابرات.. النكسة". في هذا الحوار حكي صلاح نصر ما جري يقول:كان بعض الزوار الذين يأتون إلي مصر لمباحثات سياسية سرية علي مستوي القمة، كانوا يتصلون بنساء، وفي اليوم التالي كانت أجهزتنا تأتي بكل أسرار المحادثات من أفواه هؤلاء النسوة اللاتي يرددنها في كل مكان، هذه المحادثات السرية عندما تنشر أخبارها أليس هذا ضد الأمن القومي؟ ألا تصل إلي عملاء الأعداء؟ فكر صلاح نصر وقتها أن يكون لدي الجهاز طاقم مدرب يمكن السيطرة عليه حتي لا يفشي الأسرار، وهؤلاء اللاتي عملن مع جهاز المخابرات حصلن علي تدريب أمن وفرق توعية، وقد نجح الجهاز من خلالهن في عدم نشر الأسرار السياسية، ويعترف صلاح، بأن بعض النساء العميلات نجحن في الكشف عن قضايا تخابر لم يكن في استطاعة الرجال أن يصلوا إليها. كان هناك مبرر قوي يملكه صلاح نصر، كان يري دائما أن أعمال المخابرات غير مشروعة ولكنها مباحة، ولأن الجهاز لا يرغم امرأة علي العمل معه، ولأن الهدف شريف وهو خدمة الوطن فلا مشكلة علي الإطلاق في تشغيل النساء. ويعترف صلاح نصر اعترافا خطيرا يصل إلي عبد الناصر نفسه يقول: الدولة كانت تعلم كل صغيرة وكبيرة حول استخدام هذا الأسلوب، لم تكن العمليات تتم بطريقة عشوائية أو ارتجالية، كل عميلة قبل تجنيدها لها سجل به تاريخ حياتها ومعارفها ونشاطها وعلاقاتها كأي موظف، وكل عملية تقوم بها مسجلة بالتفاصيل، أسبابها وأهدافها وماذا حققت، لم تكن العميلة كما صورها البعض تخضع للنزوات أو الشهوات. ويأتي صلاح نصر إلي النقطة الأهم يقول:اللاتي تعاونّ مع جهاز المخابرات من الفنانات رحبن بالعمل معنا فورا ولكل واحدة منهن ملف موقع بإمضائها برغبتها، وكل واحدة من اللاتي تعاون معنا حصلت علي أجر عما قامت به كاملا، وبعض اللاتي يتشدقن بالعفة كانت تأخذ أجرها برغبتها عن كل عملية تقوم بها، لقد قيل عن ذلك أسماء عديدة وقصص خيالية قرأتها رغم أن عدد هؤلاء الفنانات كان قليلا وقد تعاون برغبتهن. كان صلاح نصر واضحا مع نفسه، فعندما سأله عبد الله إمام: قيل إنكم كنتم تصورون بعض السيدات في أوضاع جنسية للتأثير عليهن وإخضاعهن لكم لأسباب خاصة؟ فرد عليه نصر:اللاتي كن يعملن في عمليات السيطرة ليست منهن عنقاء يصعب الوصول إليها، وهناك في أعمال المخابرات ما يسمي بأعمال السيطرة علي العميل أو العميلة، ليست السيطرة فقط هي السيطرة بالجنس، فهناك أنواع معروفة عديدة من السيطرة كالمال والمخدرات والوثائق علي العميل بخط يده أو تسجل خيانته لوطنه، وهناك السيطرة بالجنس أو الشذوذ الجنسي باعتبارها نقاط ضعف. أنكر صلاح نصر أن تكون المخابرات المصرية في عهده اعتمدت علي ما يسمي بيت الملذات، وهو أسلوب كانت تستخدمه إسرائيل في السيطرة علي خصومها بالجنس، ويقول: استخدامنا للمرأة كان محدودا جدا وعندما تدعو الضرورة القصوي، ولم تكن هناك عمليات كثيرة. الأهم في الأمر أن صلاح نصر كان واثقا مما قاله، إن هناك قصة تشبه الأسطورة وهي أنه تحايل لتصوير ممثلة مشهورة وأنه أرسل لها مدير مكتبه علي أنه رجل أعمال وتم تصويرها معه، لكن صلاح ينسف هذه الأسطورة: يقول: سجل هذه العملية موجود يرد علي الافتراءات، هذه العملية تدخل في مخططات تشويه المخابرات، لم يذهب لها أحد مديري مكتبي، ولا رجل مخابرات، ولكنها كانت عملية مخابرات صرفة، ربما كانت هذه الممثلة وهي معروفة بأجرها، معروفة وأنا علي استعداد إذا سمحت الدولة أن أنشر هذه القصة علي الملأ بالتسجيل وبالوثائق الدامغة ليبين من هي هذه الممثلة ومن هم الذين وراءها لتكون نموذجا لقصص مثيرة مماثلة وكلها كاذبة. لقد تقاطعت علي رقعة الشطرنج التي كان يتحكم فيها صلاح نصر، أسماء لفنانات كثيرات منهن مثلا فاتن حمامة واعتماد خورشيد وسعاد حسني، ورغم أنه يؤكد أنه لم يرفع قضية علي سعاد حسني يوما، إلا أن الخيال الشعبي ينسب لسعاد عملا بالمخابرات ويؤكد أن وفاتها قد تكون بسبب عملها المخابراتي السابق، وهو أمر قد يكون صلاح نصر أخفاه لأسباب تتعلق بالمصلحة العامة. لكن المؤكد أن ما قيل عن الجنس في قضية انحراف المخابرات لم يكن دقيقا بالقدر الكافي، ولذلك فإن الأرض لابد من تقليبها من جديد، ولابد من رد اعتبار صلاح نصر الرجل الذي ساهم في بناء المخابرات المصرية، ورغم ذلك لا نذكره إلا ونلحق به قضية انحراف المخابرات.. وهذا حديث آخر.